أين أخطأ داروين (كتاب)
كتاب أين أخطأ داروين لفيلسوفين ملحدين هما جيري فودور و ماسيمو بيتالي بالماريني وساعدهما في تنقيح هذا الكتاب عالم اللغة المشهور نعوم تشومسكي، والكتاب بمجمله مؤيد للتطور وناقد للانتقاء الطبيعي بشدة. ويستخدمان أدلة قوية وعميقة تحتاج إلى ملكة علمية واطلاع فلسفي لادراك كنهها.
وفيما يلي التوضيح الطويل الذي كتباه في مقدمة الكتاب: هذا ليس كتابًا عن الله، ولا عن التصميم الذكي ولا عن مذهب الخلقية. فكلانا لا يؤمن بأي من هذه الأشياء. ورأينا من الأفضل أن نوضح ذلك بدايةً؛ لأن طرحنا الأساسي في الكتاب أن هناك مشكلة – قد تكون مشكلة خطيرة جدًا - في نظرية الانتقاء الطبيعي، وإننا ندرك أنه حتى عند الذين لا يعرفون ما هي الداروينية تمامًا أصبح إعلان الولاء للداروينية هو الاختبار المعياري -كاختبار الحموضة بورقة عباد الشمس- الذي يحدد إن كان المرء يتمتع برؤية كونية "علمية صحيحة" أم لا. ويُقال لنا: "عليك أن تختار إما الإيمان بالله وإما الإيمان بداروين، وإن أردت أن تكون علمانيًا من أنصار المذهب الإنساني humanist فعليك أن تختار داروين." ونشكك بكون هذين الخيارين يستغرقان حصريًا كل الخيارات المتاحة، ونرغب بطبيعة الحال وبقوة أن نكون علمانيين من أنصار المذهب الإنساني، بل ويزعم كلانا أنه ملحد كامل الإلحاد، مصبوغ بصبغة الإلحاد، ومتشبع به حتى النخاع، دون أي تحفظات؛ وبالتالي سنبحث بعمق عن تفسيرات طبيعية naturalistic تمامًا لحقائق التطور، رغم إننا نتوقع أنها ستكون معقدة جدًا، كما تكون التفسيرات العلمية عادةً. إننا نفترض أن التطور عملية آلية بالتمام والكمال، ولا نؤمن بذلك فقط لكي نستبعد دور الأسباب الإلهية، وإنما لننفي كذلك دور الأسباب المطلقة، والقوة الحيوية élan vital، والأرواح أو قوى التحقق entelechies، وتدخل الكائنات الفضائية إلخ. ويتفق هذا مع منهج داروين في مناقشة قضية التطور، ويسعدنا أننا نوافقه في هذا المستوى على الأقل.
لكن كتابنا بمعظمه كتابٌ ناقد، وغالب ما يتحدث عنه هو الأشياء التي نعتقد أن الداروينية قد أخطأت فيها، وسنقدم تلميحات قبل نهاية الكتاب إلى أين يحتمل وجود بديل مناسب باعتقادنا، ولكنها ستكون إشارات عامة جدًا. لأننا في الواقع لا نعلم جيدًا كيف يعمل التطور، ولم يعلم داروين ذلك، ولا أحد آخر (بحسب علمنا) يعلم. وكما يُقال: "يلزم إجراء المزيد من الأبحاث"، بل ربما يلزم قرون من الأبحاث.
قد تتساءل وهذا منطقي: هل كتابة أطروحة نقدية للرؤية الداروينية الكلاسيكية يستحق بذل الجهد في هذه المرحلة المتأخرة؟ يقول لنا أصدقاؤنا الطيبون في مجال البيولوجيا "التجريبية" wet" biology" إنه لم يعد من بينهم داروينيّ "من ذلك الطراز"، ولا أحد في البيولوجيا البنيوية structural biology يؤمن بمذهب التكيفية adaptationism حاليًا، (هنالك تياران للنظر في التطور: الدارونية التي تعتمد على الوظائفية والتكيفية، وتيار البنيوية الذي يرى التطور ثمرة لبنية الكون أساسًا وليس نتيجة عمليات عشوائية توجهها الوظيفة الملائمة للبقاء، وكتاب "التطور: لا تزال نظرية في أزمة" لمايكل دنتون يوضح هذا التوجه) (سوف نستعرض بعض أسباب ذلك في القسم الأول). إننا مسرورون بهذه التصحيحات للرؤى، ولكننا نشك في أنها تعبر عما يحدث عمومًا في علم البيولوجيا (خذ مثلًا البحث الجاري حاليًا حول نماذج رياضية للانتقاء الطبيعي الأمثل). وهذا لا يعبر قطعًا عن الآراء العلمية في المجالات التي عملنا فيها نحن المؤلفَين، والتي تتضمن فلسفة العقل philosophy of mind، والدلالة الطبيعية للّغة natural language semantics، ونظرية بناء الجملة syntax ، وإصدار الأحكام واتخاذ القرارات judgment and decision-making، وعلم التداولياتpragmatics ، وعلم النفس اللغوي psycholinguistics. في كل تلك المجالات تؤخذ الداروينية الحديثة مُسلَّمة بديهية axiomatic، ولا يُشكك فيها أبدًا (انظر الملحق). وأي رؤية يبدو أنها تعارضها -سواء مباشرة أو ضمنيًا- ستُرفَض لذاتها ipso facto مهما بدت معقولة. وتتعامل وفق هذا المبدأ حاليًا أقسام جامعية كاملة ومجلات علمية ومراكز أبحاث. ونتيجة لذلك تزدهر الداروينية الاجتماعية والدارونية الإبستيمية والدارونية النفسية والأخلاقيات التطورية، بل وتنتشر حتى الجماليات التطورية evolutionary aesthetics كذلك، فلتساعدنا السماء! لو أردت أن ترى معالم ذلك فألقِ نظرة على قسم العلوم في الجريدة اليومية. لقد بذلنا مجهودًا كبيرًا وكتابات كثيرة في دحض بعض تلك التفرعات الداروينية الحديثة الفظيعة، ولكننا نعتقد أن ما ينبغي فعله هو اجتثاث الشجرة من أصولها: أي أن نبيّن بأن نظرية داروين للانتقاء الطبيعي مصابة بعيوب خطيرة جدًا. وهذا هو لب كتابنا.
وخلال ذلك سنميل لأن نكثر قليلًا من الاستطراد، فالنقد الذي نوجهه للداروينية يطرح قضايا فرعية لا نستطيع تركها تمر دون مناقشة؛ ولذلك سمحنا لأنفسنا بالعديد من التفرعات التي نراها مهمة، وعذرنا في ذلك أن الكثير من القضايا التي تبدو لأول وهلة بعيدة عن موضوعنا، يتضح - بعد مزيد من التأمل - أنها ليست كذلك. ونُسأل أحيانًا: "هل تظنون أنكم وجدتم فعلًا "أخطاءً خطيرة جدًا" في متن نظرية أجمع عليها العلم كل هذا الزمن الطويل؟"
يُذكروننا بأن العجرفة خطيئة ويحذروننا منها. ونرد عليهم بأنه إن لم تكن أنواع الاعتراضات التي نذكرها حول الداروينية قد ذُكرَت من قبل، فلأنها قد سقطت سهوًا بين المقاعد، ويبدو أنه قد تأخرنا على إعادة ترتيب الأثاث. ستسير حجتنا مثلًا على منوال يشبه ما يلي: يوجد في لب النظريات التكيفية للتطور خلط بين:
- الزعم بأن التطور عملية تُنتَقى فيها الكائنات ذات الخصائص المتكيفة.
- والزعم بأن التطور عملية تُنتقى فيها الكائنات من أجل خصائصها المتكيفة.
سوف نجادل إن الداروينية تلتزم باستنباط 2 من 1، وهذا استنتاج خاطئ (في الواقع هذا ما يسميه الفلاسفة مغالطة التعريف الخاطئ intensional fallacy) ولا توجد طريقة لإصلاح هذا الضرر بما ينسجم مع الالتزام بمذهب الطبيعية naturalism، وهو المذهب الذي نعتبره كلمة سواء بيننا، ومن أهم أهداف الكتاب توضيح كل هذا.
قد تتساءل -ومعك الحق في ذلك-: "ألم يلحظ أحد ذلك الالتباس في الارتباطات من قبل؟" نعتقد أن الإجابة واضحة: على الرغم من وجود نقاشات طويلة وثريّة حول القضايا التي تنشأ بسبب تفسيرات تخطئ في تحديد المعنى إلا أن معظم تلك النقاشات كانت محصورة ضمن الأدبيات الفلسفية فقط، ولا يدرس علماء البيولوجيا هذه الأشياء بتعمق. كما أنه من الناحية الأخرى: يلم قلة قليلة من الفلاسفة بما يكفي من منهج التنظير التطوري التقليدي في البيولوجيا بما يمكنهم من فهم مدى اعتماد ذلك المنهج على المفهوم غير القابل للتفسير "الانتقاء من أجل selection for". عندما فكر الفلاسفة في تفسيرات خطأ تحديد المعنى كان جل تفكيرهم متعلق بالتفسيرات النفسية لهذا الأمر؛ ولذلك يبدو بالنظر إلى الوراء أنه قد كان من المفيد لو وُجدت نقاشات مطولة متعددة الاختصاص بين الفلاسفة وعلماء البيولوجيا حول نظرية التطور، ولكن الكل مشغولون بالطبع، وأنت لا تستطيع أن تقرأ كل شيء. ونحن كذلك لا نستطيع.
هناك أمثلة أخرى عن قضايا كان يمكن أن تدور حولها نقاشات مفيدة متعددة التخصصات فيما يتعلق بمذهب التكيفية، ولكنها لم تحدث. والفكرة الأساسية التي ستتكرر فيما يأتي من الشرح في الكتاب، هي التشابه الهام بين تفسير تثبيت الأنماط الظاهرية phenotypes الذي قدمه داروين وبين تفسير اكتساب "المَلَكات السلوكية behavioural repertoire" باستخدام "نظرية التعلم" التي وضعها بوروس فريدريك سكينر Skinner مؤسس مذهب السلوكية behaviourism، عالم النفس المرموق من جامعة هارفارد الذي سادت آراؤه في زمن ما. بل نزعم أن تفسير سكينر للتعلم وتفسير داروين للتطور متطابقان تمامًا ولا يختلفان إلا في الاسم (وعلى الأغلب كان سكينر سيوافقنا، إذ أنه حاول كثيرًا اللجوء إلى معسكر داروين). ربما كان بي اف سكينر أشهر عالم نفس أكاديمي في أمريكا في منتصف القرن العشرين، وبالتأكيد كان أكثر عالم نفس تُناقش آراؤه على مدى واسع. وكان هدفه الصريح وضع تفسير علمي متين لكيفية اكتساب السلوكيات المُعَلَّمة، ومزجت النظرية التي وضعها بين مذهب الارتباطيةassociationism الذي صاغه التجريبيون البريطانيون empiricists وبين مذهب الوضعية المنهجية methodological positivism من علماء نفس مثل واطسون Watson وفلاسفة مثل ديوي Dewey. لقد أخذ من التجريبيين أُطروحة أن التعلم هو تكوين العادات، ومن الوضعيين أُطروحة أن التفسير العلمي يجب أن ينبذ افتراض أمور لا يمكن ملاحظتها (واللافت أنّ ذلك يشمل الحالات العقلية والعمليات العقلية). أنتج مزج الفكرتين معًا نوعًا من علم النفس يتعامل مع الكائن على أنه صندوق أسود، ويتعامل مع التعلم على أنه تكوين ارتباطات بين المؤثرات البيئية والاستجابات السلوكية التي يُحدِثها المؤثر، ولقد افترض سكينر أن تكوين تلك الارتباطات بين المؤثر والاستجابة يتحكم فيه قانون التأثير law of effect - وتحديدًا مبدأ أن التعزيز يزيد من قوة العادة. هذه الأطروحات بعيدة جدًا عن أي أطروحة عند داروين طبعًا، ولكننا سنبين حالًا أن الخطأ في تفسير داروين لتطور الأنماط الظاهرية يشبه كثيرًا الخطأ في تفسير سكينر لاكتساب السلوكيات المُعَلَّمة.
منذ خمسينيات القرن العشرين أصبح من المعلوم أن مشروع سكينر لا يمكن تحقيقه، وقد تأكدت أسباب فشل هذا المشروع (لقراءة مراجعة كلاسيكية انظر تشومسكي 1959، ولقراءة حجج أحدث انظر إسهامات تشومسكي مع بياتلي بلماريني Piattelli-Palmarini 1980). ولما كان الحال هكذا فمن الطبيعي أن نتساءل إن كان ممكنًا تطبيق الاعتراضات الحاسمة المشابهة التي عصفت بنظرية سكينر على نظرية الانتقاء الطبيعي، مع مراعاة فوارق التشبيه بالطبع mutatis mutandis. لكن النتيجة حاليًا أن علماء البيولوجيا التطورية لا يقرأون الكثير عن تاريخ نظريات التعلم السلوكية، وعلماء النفس لا يقرأون الكثير عن البيولوجيا التطورية (مع أن هذه النقطة بدأت تتغير حاليًا)، ولا يقرأ الفلاسفة عن المجالين عمومًا. ولذلك فعلى الرغم من أن التشابه بين نظرية الانتقاء الطبيعي ونظرية الإشراط الإجرائي operant conditioning قد ذُكر وجوده من حين إلى آخر، إلا أن أحدًا لم يبحث جديًا في مسألة كيف يمكن لمنطق إحدى النظريتين أن يوضح منطقَ النظرية الأخرى. نأمل أن نقنعك أنك عندما ترى أسباب عدم إمكانية صحة نظرية سكينر بخصوص آليات التعلم؛ فسيتضح لك -وللأسباب نفسها- أن داروين لم يكن محقًا بخصوص آليات التطور كذلك، صحيح أن سكينر كان سلوكيًا، بخلاف داروين، ولكننا سنجادل بأن المشاكل العميقة التي تواجه كلتا النظريتين - وكلها مظاهر مختلفة من مغالطات التعريف الخاطئ intensional fallacies في الحالتين - لا تتأثر بهذا الاختلاف.
وصف لفصول الكتاب
لقد رتبنا ما سنناقشه على الشكل التالي: يتحدث عن عدة أوجه تتشابه فيها نظرية التعلم ونظرية التطور الداروينية الحديثة في كل من بينتهما العامة وفي تفاصيل كثيرة. تلتزم كلتا النظريتين بالأخص بنموذج "أنْتِجْ ورشِّحْ" للظواهر التي يزعمان تفسيرها، وبالتقدير الأولى نجد أن كلتاهما تريان أن المُنتِج المدروس عشوائي والمرشِّح المدروس خارجي، وقد ظهر أن هذه الافتراضات لا حظ لها من الصحة في تفسير التعلم، وذلك لأسباب يبدو أنها تنطبق أيضًا على تفسير الانتقاء الطبيعي سواءً بسواء. القسم الأول، خصص للأبحاث الأخيرة في البيولوجيا والتفكير السائد فيها، وتلخص الفصول الثاني والثالث والرابع من القسم الأول مجموعة ثرية من الحقائق الجديدة، وآليات تطور جديدة غير الانتقاء الطبيعي قد اكتشفت فعليًا في البيولوجيا، تفسر لنا لماذا لم يعد أصدقاؤنا في مجال البيولوجيا داروينيين من ذلك "الطراز". يقدم الفصل الخامس ملخصًا لحقيقة وتفسير آخر موجود حاليًا في البيولوجيا، ولكنه بعيد تمامًا عن نظرية التطور الداروينية الحديثة المعيارية، وبالمحصلة فسنذكر حالات وُجدَت فيها بُنيات وعمليات مثلى في الأنظمة البيولوجية، وهي نماذج تحققت فيها الصورة المثلى طبيعيًا، وربما نشأ ذلك من قوانين الفيزياء والكيمياء. ونعتقد أنه من شبه المؤكد أن تكتشف عمليات تنظيم ذاتي self-organization أخرى تعتمد على قوى تجميع ذاتية التحفيز autocatalytic collective forces في المستقبل القريب، ومن الواضح، ولأسباب سوف نُفصّلها في ذلك الفصل، أنها ليست نتيجة غربلة الانتقاء الطبيعي لتنوعات ناتجة عشوائيًا. أما القسم الثاني، فيستعرض الأسس المنطقية والتصورية في نظرية الانتقاء الطبيعي. إن منهج العلوم الإدراكية cognitive sciences في دراسة علم النفس الذي حل تقريبًا محل نظرية التعلم في العقود الأخيرة، قد أكد على دور القيود الداخلية endogenous في تشكيل الملكات السلوكية المعلَّمة. مع كامل احترامنا لسكينر، فإن ما يجري في عملية التعلم لا يمكن تمثيله بنموذج الترشيح الخارجي للسلوكيات exogenous filtering التي تنبعث في البداية عشوائيًا. وكما سنرى في القسم الأول، هناك قدر متنامٍ وشديد الإقناع من الأدلة التجريبية، التي تشير إلى أن الإشكال نفسه موجود في تطور الأنماط الظاهرية: ونظن أن الداروينيين - شأنهم شأن أتباع سكينر- قد بالغوا في تقدير دور الإنتاج العشوائي، والترشيح الخارجي في تشكيل الأنماط الظاهرية. يدور الفصلان السادس والسابع حول بروز قضايا التعريف بالوصف intensionality في التفسير التكيفي لآليات الانتقاء الطبيعي، ونبدأ بظاهرة الركوب المجاني free-riding التي تُنتقى فيها خصائص ظاهرية محايدة ليس لها أثر معين وذلك لأنها ترتبط بخصائص تؤثر سببيًا على الصلاحية. أصبحت النقاشات حول الركوب المجاني مألوفة في الأدبيات البيولوجية منذ كتاب غولد Gould ولونتين (1979)، بل إن داروين نفسه قد لاحظ هذه الظاهرة، ومن المتفق عليه أنها تمثل استثناءً في التفسيرات التكيفية الصارمة للتطور، ولكن الإجماع منعقد على أنها استثناء هامشي نسبيًا يمكن الإقرار به دون أن يخالف الاعتقاد بأن تطور الأنماط الظاهرية يتأثر بشكل أساسي بالانتقاء الخارجي. ولكننا نجادل بأن هذا الإجماع يفشل تمامًا في إدراك مقتضيات الركوب المجاني، والظواهر المرتبطة به بخصوص النظريات التي تشرح كيفية تطور الأنماط الظاهرية. يلتبس على الداروينيين في قضية الركوب المجاني أنهم لم يلحظوا الخطأ في تحديد معنى مبدأ "الانتقاء من أجل" وما يشبهه، وعندما يُلفت انتباههم إلى ذلك فليس لديهم أدنى فكرة عن كيفية حل المشكلة. نعتقد أن هذا الوضع قد تسبب في ظهور الفزاعات الكثيرة التي تطارد التفسيرات الداروينية للتطور: أمنا الطبيعة والجينات الأنانية selfish genes والميمات memes الاستعمارية وما يشبهها وهي أشهر الأمثلة في الكتابات الحالية، ولكن أصول مشكلة الركوب المجاني متجذرة منذ انشغال داروين بالشبه المزعوم بين الطريقة التي يتحكم بها الانتقاء الطبيعي في الأنماط الظاهرية وبين الطريقة التي يتبعها مربو الحيوانات والنباتات. وقد فات داروين هنا أن يلاحظ حقيقة أن المربين لهم عقول -أي يتصرفون تبعًا لما تمليه معتقداتهم ورغباتهم وإراداتهم إلخ- في حين أن شيئًا من ذلك لا ينطبق طبعًا على الانتقاء الطبيعي. سيكون من الصادم - في ضوء هذا الاختلاف - إن كانت النظريات التي تنطبق على انتقاء المربين تمثل نموذجًا صالحًا لنظريات الانتقاء الطبيعي. يردّ الفصل الثامن على ما يُعتبر أقوى حجة تدعم الانتقاء الطبيعي باعتباره الآلية الأهم في تطور الأنماط الظاهرية، وهي الحجة التي تقول إنه لا يوجد بديل يستطيع أن يقدم تفسيرًا يتفق مع المذهب الطبيعي لتكيف الحيوانات "الفريد exquisite" مع بيئاتها. ونظن أن هذه الحجة مغالِطة، على الرغم من أنها تنتشر بقوة في الكتابات العلمية، و سنشرح في هذا الفصل لماذا نعتقد ذلك. سنهتم في الفصل التاسع بكيفية تفاعل القضايا المتعلقة بالانتقاء الطبيعي مع مسائل عامة أخرى من التفسيرات العلمية. بعض التفسيرات التجريبية ترسم حدود مجالاتها في مستويات أنطولوجية "وجودية" متعددة في الوقت نفسه. فمثلًا تتسم التفسيرات التاريخية بقوة أنها "متعددة المستويات"؛ فتفسير ما فعله نابليون في واترلو قد ينظر في نفس الوقت إلى سنه وتنشئته وطبقته الاجتماعية ونوعية شخصيته، فضلًا عن خبرته العسكرية السابقة وحالته النفسية وحالة الجو وتركيز الكافيين في القهوة التي شربها في ذلك الصباح. وبالمقابل نجد هنالك نظريات "المستوى الواحد"، وربما أقوى مثال على ذلك ميكانيك نيوتن. يعتبر في مجال تلك النظرية كل الأفراد جسيمات نُقَطِيّة point masses، وكل "ما تعرفه" النظرية عنها (أي المتثابتات parameters التي تنطبق عليها قوانين النظرية) هو مواقعها وسرعاتها والقوى التي تؤثر عليها؛ ولذلك يختصر ميكانيك نيوتن ألوان الأشياء وتواريخها وهوية مالكها (إن وجدت) إلخ. وكثيرًا ما يُذكر بأن الأفراد في عيون العلوم البسيطة أكثر تشابهًا منها في عيون العلوم المتخصصة؛ إذ أن الجزيئات النيوتنية لا تختلف إلا في كتلتها أو موقعها أو سرعتها، بالمقابل قد تختلف الكائنات والأنماط الظاهرية والبيئات (وتختلف فعلًا) من جوانب كثيرة. اقرأ إليس Ellis (2002( لمناقشة ممتعة لهذه القضية.
هناك افتراض منتشر (ونظنه خاطئًا) بأن نظريات التطور هي أساسًا من جنس النظريات وحيدة المستوى. إن العلاقات الوحيدة التي تدركها هي التي توجد بين الأشياء (أو الأحداث، أو كليهما معًا) على المستوى الكبير macro-level: الكائنات من ناحية وبيئاتها من الناحية الأخرى. إن التفسيرات التي تقدمها هذه الأنواع من النظريات تحدد كيف تُنتِج التفاعلاتُ السببيةُ بين الكائنات وأنظمتها البيئية، التغيراتِ في صلاحية الكائن، وبناءً على هذه الرؤية يعمل كل من داروين ونيوتن تقريبًا على المنوال نفسه.
وينظر الفصل التاسع في مدى مقبولية تفسير التطور على أنه نظرية وحيدة المستوى. إن من أهم ما يرمي إليه هذا الكتاب أن يبين أنه لا يوجد على الأرجح شيء له أهمية تشترك فيه عمليات تطور الأنماط الظاهرية وفق هذه الكيفية [نظرية وحيدة المستوى]. ولو صح ذلك فسيترتب عليه أمور مهمة: بما أنه ليست هناك آلية واحدة فقط لتثبيت الأنماط الظاهرية فهذا يعني بقوة أنه ليس هناك "مستوى" وحيد لتفسير التطور، وأنه لا يمكن أن توجد نظرية عامة في التطور، بل إن قصة تطور الأنماط الظاهرية لا تنتمي للبيولوجيا بقدر ما تنتمي إلى التاريخ الطبيعي. والتاريخ - سواء أكان طبيعيًا أم غير ذلك - هو بلا نزاع مرتكز التفسيرات التي لا تتوافق مع النموذج النيوتني العام Newtonian paradigm.
ولقد أضفنا للكتاب ملحقًا فيه اقتباسات توضح قدر تغلغل الرؤى المتطرفة للنزعة التكيفية adaptationism في مجالات قريبة من البيولوجيا، مثل الفلسفة وعلم النفس وعلم الدلالة "السمانطقيا".
لقد أطلنا ما يكفي في استهلال الكتاب، وسنختتم هذه التعليقات التمهيدية بموعظة صغيرة: لقد أخبرنا غير واحد من زملائنا إن كان داروين مخطئًا في زعمه أن الانتقاء الطبيعي هو آلية التطور، فرغم ذلك لا ينبغي لنا أن نقول ذلك، أو على الأقل لا نتحدث بهذا على الملأ، وأننا لو فعلنا ذلك فإننا - ولو عن غير قصد - نصطف مع القوى الظلامية Forces of Darkness التي تريد أن تجلب العار إلى العلم. حسنًا، لا نوافقكم على ذلك. بل نظن أن الطريق إلى خلخلة صفوف قوى الظلام، يكون بتتبُّع الحجج إلى حيث تقودنا مهما كان ذلك، ناشرين هذا النور حولنا على قدر استطاعتنا خلال هذا السعي. إن ما يجعل جيوش الظلام ظلامية هو أنها لا تريد أن تفعل ذلك، وما يجعل العلم علمًا هو أنه يفعل ذلك.