تصميم الحياة (كتاب)

من Wiki Tanweer
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

كتاب شامل ومهم في عرض موقف تيار التصميم ، وقد ترجم إلى العربية.

الفصل الأول: أصل الإنسان

يبحث الكاتب في هذا الفصل أصل الإنسان ونشأته، مؤكدًا على تفرده وتميزه عن باقي الحيوانات، في حين يحط التطوريون من شأن الإنسان ويعظمون صفاته الشبيهة بالحيوان، منكرين تفرد الإنسان وتميزه الواضح عن باقي الحيوانات. فيرى داروين مثلًا مؤسس علم التطور أن قدرات الإنسان العظيمة عظيمة من حيث الكم لا النوع، فهي نفسها موجودة لدى أقاربه القرود إلا أنها أكبر فقط. فهل هذا هو الحال فعلًا؟ وهل الإنسان فعلًا ليس إلا نسل أسلاف شبيهة بالقرود والتي بدورها ترجع في تاريخها إلى سلف مشترك بدائي؟ القصة التطورية تقول نعم، لكن لنظرية التصميم الذكي سيناريو مختلف.

ما هو التصميم الذكي؟

أي شيء مصمم إن كان لا بد من ذكاء ضروري لظهوره ليطابق بين الوسائل وغاياتها، والذكاء يجعل لكل سبب أو عامل أو عملية غايةً وهدف. فالتصميم الذكي حسب تعريف الكاتب: دراسة الأنماط الموجودة في الطبيعة التي تُفَسَر بالشكل الأمثل عند اعتبارها صنيعة لقوة ذكية. يدحض كثير من علماء التطور التصميم الذكي بداعي أنه غير علمي، لكن الكاتب يرد على ذلك بأن كثيرًا من العلوم تستعمل مبدأ التصميم، فعلم الآثار يستنبط التصميم من آثار الحضارات الغابرة مثلًا. من الأمثلة الأخرى الذكاء الصنعي وعلم الشفرات وغيرها. يستشهد المؤلف أيضًا بمشروع SETI وهو مشروع علمي يحاول الكشف عن آيات الذكاء في الإشارات الراديوية الواردة من الفضاء الخارجي لإيجاد كائنات فضائية ذكية، ثم يستشهد بنظرية الآية panspermia التي تدعي أن هنالك كائنات ذكية زرعت الحياة على سطح الأرض منذ زمن بعيد، وهي نظرية معتبرة في أوساط العلماء بزعم أنها ضمن حدود العلم، رغم أنها بالمثل معتمدة على وجهة نظر أن الحياة على سطح الأرض مصممة. ثم يستعرض المؤلف في خمسة أبواب حجج التطوريين في نشأة الإنسان.

أحفورات أسلاف البشر

يرى المؤلف في هذه الحجة مغالطة هو قبله فهو سببه post hoc، فمجرد وجود أحفورات لأجناس قريبة إلى البشر لا يعني تطور هذه الأحفورات إلى الإنسان homo sapiens. والتشابه البنيوي لا يثبت التطور كما سيسرد لاحقًا في الفصل الخامس.

الشمبانزي ونسبة الـ 98%

وصف المؤلف تجربة اكتشاف وجود تشابه بين الحمض النووي DNA للبشر والشمبانزي بنسبة 98%، والتي يتخذها التطوروين حجة على انحدار البشر والشمبانزي من سلف مشترك شبيه بالقرود. ثم ذكر أن هذه التشابهات ليست مفاجئة، فهنالك تشابهات عضوية، لكن هنالك أيضًا اختلافات جسدية كبيرة، والأهم من ذلك اختلافات هائلة جدًا من حيث القدرات الإدراكية واللغوية والروحية. ثم ذكر أن هذه النسبة مضللة، فهي ضئيلة بالنسبة للبشر وليس الآلة البيولوجية. وضرب مثالًا عن كتابين متشابهين بنسبة 98%. سيبدو الكتابان متطابقين للقارئ البشري لأنه سيسهى عن ال 2% من الأخطاء، لكن في الدنا DNA، تغيير أساس واحد كفيل بالتسبب بتغيرات وظيفية جذرية، والتي قد تكون كارثية أو مميتة حتى، فالتغيرات الجينية الطفيفة قد تعني تغيرات وظيفية كبيرة. إضافة لذلك، يمكن أن يمتلك كائنان جينات شبه متطابقة لكن التعبير عن هذه الجينات مختلف اختلافًا كبيرًا، مؤديًا إلى اختلاف الكائنين اختلافًا كبيرًا. فالبروتينات التي تنتجها الجينات تتآثر مع بعضها في شبكات وظيفية عالية المستوى لا تعتمد على التسلسل وحده فقط. والنظام الجيني معقد ومتداخل ولا يمكن لطريقة التطور بالخطأ والتجربة أن تغيره ببساطة، فلا بد من تغيرات متناسقة ومتعددة، وحصول هذه التغيرات لا يدل إلا على ذكاء يصدر عنه هذا التصميم البديع.

فوائد الأدمغة الكبيرة – والصغيرة

يرجع التطوريون اختلاف سلوك البشر عن باقي الحيوانات إلى كبر حجم دماغهم بشكل أساسي. لكن التفسيرات العلمية لحصول ذلك واهية، فترى نظرية الفك السفلي مثلًا أنّ طفرة أدت إلى ضعف الفك السفلي وبالتالي ضعف القدرة على المضغ لكن الجمجمة أصبحت قادرة على النمو بحرية، مفسحة المجال لكبر حجم الدماغ. لو فكرت في هذه الحجة لوجدت أنها مستندة فقط إلى أن توفر المساحة للدماغ أدى إلى نموه وزيادة حجمه. هذه ليس حجة علمية بل خيالات واهية. وهي أقصى ما استطاع التطوريون الوصل إليه، فهم لا يجدون أي سمة حيوية متماسكة يمكنها تفسير الجوانب الإدراكية المميزة لدى البشر. ثم يسرد الكاتب مدى تعقيد الدماغ وتنظيمه، وهي من الجوانب التي يهملها التطوريون عند التحدث عن نشأة دماغ البشر، وبالنسبة لهم، بمجرد أن أصبحت الأدمغة كبيرة ظهرت القدرات الإدراكية المدهشة والجهاز العصبي المعقد. لكن كيف بالضبط؟ لا جواب. أضف إلى ذلك إنّ ارتباط الذكاء بحجم الدماغ ارتباط ضعيف، حيث يظهر البشر ذو الأدمغة الأصغر أو المتضررة قدرات عقلية طبيعية أو فوق طبيعية، فلم يجب التسليم بهذا الارتباط. مثلًا أصيب العالم باستور بحادث واستمر بأبحاثه العلمية وأظهر تشريح دماغه بعد موته أن نصف دماغه كان يعمل فقط. وهنالك مثال آخر لطالب عبقري لكن بين التصوير أن قشرته الدماغية رقيقة جدًا. يرد علماء التطور على هذه الشذوذات بدعوى وجود الكثير من التكرار في الدماغ، واستنتج بعضهم أن هنالك زيادة فائضة في الدماغ. لكن إن كان هذا هو الحال، فلم لم نطور قدرات إدراكية مماثلة دون الحاجة للحصول على أدمغة أكبر؟ فهي تكاليف باهظة دون فائدة ظاهرة، مثلًا يُصّعب كبر الأدمغة مرور الأجنة عبر قناة الولادة مما أدى ويؤدي إلى كثير من حالات الوفاة للجنين والأم عبر التاريخ. لماذا رجحت ميزة الأدمغة الكبيرة مع أن فيها زيادة فائضة على ميزة تيسير الولادة طالما أن المحصلة النهائية واحدة! يختم المؤلف الباب بسؤال آخر لكن ليس آخر هذه الأسئلة، وهو إثبات فائدة الأدمغة الكبيرة، فهل القدرات العقلية الراقية مرتبطة حقًا مع حجم وبنية الدماغ، فلا براهين تجريبية على ذلك أيضًا.

اللغة والذكاء

يرى التطوريون أن اللغة لدى البشر ليست إلا تطور لأنظمة التواصل بين الحيوانات – أسلافه المفترضين. ويرون في تجارب تعليم القرود لغة الإشارة دليلًا على ذلك، لكن هل هي كافية حقًا لعزو اللغة للأسلاف المفترضة الشبيهة بالقرود! هل تفهم القرود لغة الإشارة هذه؟ وهل للإشارة التي تستعملها مفهوم نظري في عقلها كما يفعل البشر، بحيث تستطيع توظيف هذا المفهوم في عدد غير محدود من السياقات كالبشر؟ بالتأكيد لا فأنظمة التواصل بين القرود وغيرها من الحيوانات لا صلة لها بلغة الإنسان. شرح ذلك عالم اللغويات نعوم تشومسكي وأكد على تميز وإبداع لغة البشر عن آلية تواصل القرود. ولا نستنتج من تجارب لغة الإشارة لدى القرود سوى ثلاثة أمور: الأول أن القرود تستطيع التعامل بنظام الرموز الذي يعلمها إياه الإنسان وثانيًا أن القردة لا تستطيع التكلم وثالثًا لا تستخدم هذا النظام في الطبيعة (خارج التجربة). أما بالنسبة للذكاء فيرى الكاتب أننا نفهم الواقع والكون بالذكاء، في حين لا يراه التطوريون سوى منتجًا للانتقاء الطبيعي وأداة للبقاء والتكاثر، لكن هل فهمنا للكون يزيد قدرتنا على التكاثر والبقاء؟ وما الفائدة من تعلم الواقع الفعلي للعالم مقارنة باللذة والنفع الآني المباشر وفق مبادئ التطور السائدة؟ عبر داروين عن ذلك، فكتب "يساورني دومًا شك مخيف بأن قناعاتي حول تطور العقل البشري من عقل الحيوانات الأدنى ليست ذات قيمة أو أنها غير موثوقة"

الأخلاق

إذا كان الإدراك مفيدًا فماذا عن الأخلاق والإيثار واستعداد الإنسان للتضحية بنفسه من أجل الآخرين؟ كيف يفسر التطور هذه الأفعال؟ يرى التطوريون وبخاصة علم النفس التطوري أن هذه الأسس تسهل بقاء وتكاثر المجتمع ككل. فليست هنالك قيمة خير متأصلة في الكون. ويرى علم النفس التطوري الإيثار في شكلين: الأول انتقاء الأقارب : أي التضحية بالنفس للحفاظ على الأقارب وتعزيز بقاء جينات الفرد، وبالتالي تفضيله تطوريًا. والثاني: الإيثار التبادلي أي وفق مبدأ تحك ظهري وأحك ظهرك. ذكرت رسالة لمجلة نيتشر (2005) عدم قيام الشمبانزي بمساعدة الغرباء حتى لو كانت المساعدة هينة، بعكس البشر. حيث تشير الأدلة التجريبية إلى أن التصرف التعاوني عند الرئيسيات (باستثناء البشر) مقصور على الأقارب والشركاء لتبادل المنفعة. وهنا يجب أن نعيد النظر فيما إن كان البشر قرود معدلة أم نتاج إله خيّر. في التطور، ليس هنالك تبري أخلاقي، والفضيلة ليست إلا تكيف محض، والأخلاق مجرد وهم خدعتنا به جيناتنا. لكن هنالك كثير من الحالات، يسمو فيها البشر فوق منافعهم التكاثرية معرضين أنفسهم لخطر محقق، وفي كثير من الحالات دون مكافئة متوقعة، أو سمعة حسنة. بل يتكتمون على هذه الأفعال أحيانًا. يفسر التصميم الذكي الأخلاق بشكل متوافق مع القانون الطبيعي فهي ليست إلا انسجامًا مع أهداف المصمم التي خلق الإنسان لأجلها.

الفصل الثاني : الوراثة والتطور الكبروي

اعتمد داروين الانتقاء الطبيعي أساسًا لنظريته، إلا أن الانتقاء الطبيعي بحاجة للعمل على تغايرات موجودة مسبقًا، كما أقر داروين نفسه. لم يعرف داروين مصدر هذه التغايرات وقتها، فلم يكن علم الوراثة قد نشأ بعد، إلى أن وضع مندل أسس هذا العلم. ذكر المؤلف الوراثة المندلية وشرح مبادئها، وكيف أنها تعاكس نظرية داروين، حيث تنص على ثبات الأنواع نسبيًا، فالأنواع متغيرة لكن يقتصر التغير على مستوى النوع دون التحول إلى أنواع جديدة بصفات جديدة وهو ما يعرف بالتطور الصغروي. وهنا نقطة الخلاف بين التطوريين وأنصار التصميم الذكي. إذ يزعم الدارونيون أن التطور الصغروي عبر فترات طويلة من الزمن يؤدي إلى التطور الكبروي، أي اكتساب معلومات جديدة في حين يرى أنصار التصميم الذكي أنه لا يوجد مصادر معروفة لتغير الجينات تسهل التطور الكبروي.

التنوع الجيني

يضرب المؤلف مثال العصفور الذي تغير شكل منقاره عند انتقاله لأمريكا نتيجة التكيف مع اختلاف البيئة، فيذكر أن الجينات لم تتغير بل ظلت نفسها. فأي جماعة من الكائنات الحية تحتوي عدة متغايرات (أليلات) لنفس الجين، وما حصل هو تفضيل توليفات جينية جديدة (من جينات موجودة مسبقًا) سمحت بالتكيف مع الظروف الجديدة. فالانتقاء الطبيعي فعليًا قوة للحفاظ على النوع وجيناته الموجودة مسبقًا، وليس إيجاد جينات جديدة لاشتقاق نوع جديد. لكن ما هي الجينات؟

الأسس الجزيئية للجينات والتطور

الجينات عبارة عن تسلسلات من الحمض النووي (دنا). يرى التطوريون أن هذه التسلسلات (وبالتالي الجينات) تتغير عبر الطفرات. لكن باعتبار أن هذه الطفرات عشوائية ويمكن أن تعطل الجين قبل أن يتحول إلى جين جديد، يلجأ الدارونيون إلى سيناريو التضاعف الجيني، حيث يتضاعف الجين أولًا، بحيث يعمل الجين الأصلي وظيفته، في حين يخضع الجين الإضافي لطفرات متعددة حتى يصبح جينًا ذو وظيفة أخرى. لكن يذكر المؤلف بأن الجين بمجرد أن يصبح زائدًا فإنه يتحرر من ضغط الانتقاء الطبيعي الذي يفترض أن يرشده إلى بنيته الجديدة. وهكذا ينقض التطوريون حجتهم بأنفسهم.

الحزمة التكيفية

يذكر المؤلف استحالة تطور بنية جديدة بوساطة التغير المتدرج، فلا بد لذلك من حصول تغير منظم ومتكامل أو ما دعاه حزمة تكيفية، أي مجموعة من التكيفات المتناسقة والمتكاملة. ضرب المؤلف مثل عنق الزرافة على ذلك، فلتحقيق هذا العنق لا بد من تغييرات كثيرة في الشرايين وحساسات الضغط والألياف العضلية والأوردة..إلخ، ولا بد من حصولها في نفس الوقت لا على عبر الزمن، والتفسير الوحيد لتوليد هذه المعلومات المتكاملة هي الذكاء.

عدد الجينات اللازم للتغير

يستشهد المؤلف بعالم بيولوجيا الخلية أمبروز في عجز التطور الكبروي عن تطوير بنية جديدة. حيث افترض أمبروز أنه لا بد من خمس طفرات مفيدة على الأقل لتكوين بنية جديدة بسيطة، إلا أن احتمال حصول هذه الطفرات الخمسة ضئيل لدرجة الاستحالة. يرد التطوريون على ذلك بسيناريو التطور المشارك أي ظهور طفرة مفيدة أولًا ثم ظهور طفرة أخرى حسنتها وآزرتها وهكذا. لكن لا يمكن لهذا الرأي أن يروي أي سيناريو لأي من البنى الموجودة فعليًا. أضف إلى ذلك أنه نتيجة تعقيد الكائنات الحية فلا بد من تغييرات في البنى الأخرى لتلائم البنية الجديدة وبذلك يتضاءل الاحتمال أضعافًا مضاعفة.

البيولوجية التطورية النمائية (الايفو-ديفو)

لجأ الدارونيون مؤخرًا إلى البيولوجية التطورية النمائية أو اختصارًا الايفو-ديفو. فقالوا أن التغيرات البسيطة في البرنامج النمائية المبكرة تؤدي إلى تغيرات تطورية كبروية، والجينات المرشحة لهذه التغيرات هي الجينات الاستمثالية homeotic. أولًا، ذكر المؤلف أن هذه النظرية تنقض النظرية الدارونية التقليدية أي التغييرات الصغيرة على مدى فترات طويلة من الزمن. ثم ذكر أن الجينات الاستمثالية جينات شاملة أي أنها متشابهة في طيف واسع من الكائنات من الفراشة للسمكة للإنسان فهي لا تفسر الفروقات بين الأنواع المختلفة أبدًا. وقد فشلت جميع تجارب التطفير في دعم هذا السيناريو فشلًا ذريعًا، فكانت ضارة بل مميتة أحيانًا. أخيرًا يلجأ الدراونيون إلى الاستشهاد بشمولية هذه الجينات دليلًا على السلف المشترك، لكن الأدلة ترجح أن السلف المشترك فاقد للميزات التي يفترض أن تتحكم بها الطفرات الاستمثالية. فيرى المؤلف أن هذه الجينات تدعم التصميم الذكي وليس الدراونية، فالمهندسون عادة يستعملون تصاميم متشابهة في منتجاتهم المختلفة وبذلك فإن هذه الجينات أكثر اتساقًا مع نظرية التصميم الذكي من الدارونية والتطور الكبروي.

الفصل الثالث : السجل الأحفوري

يتناول المؤلف السجل الأحفوري التي تعتمد عليه نظرية التطور اعتمادًا رئيسيًا، مما يجعلها مختلفة عن النظريات الأخرى في أنها غير قابلة للاختبار، باعتبارها نظرية حول أحداث ماضية لا يمكن القيام بها مرة أخرى. بل إن السجل الأحفوري نفسه لا يدعم نظرية التطور، فهو مليء بالفجوات ولا نجد الأنواع الوسيطة الانتقالية الكثيرة التي افترضها داروين. اعتذر دراوين وقتها بأن السجل الأحفوري لم يكتشف بالكامل، لكن بعد 150 سنة لم نجد هذه الأشكال الانتقالية الكثيرة بالأخص بين المجموعات التصنيفية الرئيسية، فالسجل الأحفوري عبارة عن عناقيد متجمعة تفصل بينها فراغات. ثم يتناول الكاتب سمات السجل الأحفوري، والتي تناقض نظرية التطور، كالانفجار الكمبري الذي نشأت فيه معظم شعب الحيوانات المعروفة في فترة قصيرة من الزمن، ولم يكن هنالك قبله إلا بضع كائنات متعددة الخلية، ثم فترة الركود التي تبعته، حيث بقيت بعض أشكال الحياة على حالها حتى الآن لعشرات أو مئات ملايين السنين. وأخيرًا الفجوات، مثلًا بين الزواحف والطيور، فلما ظهرت الطيور القديمة ظهرت بكامل صفات الطيور الحية حاليًا، دون تدرج بينها والزواحف. ثم يستشهد الكاتب بعلماء أحافير مشهورين حول ظاهرة الظهور المفاجئ للكائنات الحية في السجل الأحفوري، ويتناول المحاولات الدارونية لتفسير هذه الفجوات:

  1. السجل غير محفوظ جيدًا: معظم الشعب الحية الآن ممثلة في السجل الأحفوري، مما يدل على أن السجل الأحفوري جيد في حفظ الكائنات الحية، ولو وجدت كائنات أخرى فلا بد أنه سيحفظ معظمها.
  2. نقص عمليات البحث: وهي حجة قديمة لا يمكن استعمالها الآن، بل إن الأبحاث الحالية تزيد الفجوات بدلًا من ملئها.
  3. التوازن المتقطع: نظرية ستيفن جولد التي خالف بها دراوين فقال أن التطور غير مستمر بل يحدث بالقفزات، تتخللها فترات طويلة من ثبات النوع. بالتالي زمن تطورها قصير جدًا ليحفظ السجل الأحفوري الأشكال الوسيطة. إلا أنه ما من آلية لتفسير هذه النظرية فهي مستندة فقط إلى الفجوات في السجل الأحفوري، كما أنها لا تفسر الفجوات والاختلافات الهائلة بين الشعب الحيوانية الرئيسية.
  4. الظهور المفاجئ: رأي يقر بعدم وجود أشكال انتقالية وبأن الأنواع تظهر فجأة، لأنها مبرمجة لذلك. إلا أن ذلك لا يدل إلا على التصميم الذكي، ولهذا فقد رفض المجتمع العلمي هذا الرأي وما تبعه من تفسيرات غير ممكنة.

أخيرًا يتطرق المؤلف لاستخدام الأحافير في تتبع السلالات التطورية فيتناول السلف المفترض للثدييات وتطور الحيتان. ويسرد المؤلف ثلاثة عيوب: الأول استخدام الدليل الأحفوري انتقائيًا فينجم عن ذلك مشكلتان وهما "انتقاء ثمار الكرز" (أي تجاهل البيانات التي لا تدعم الفرضية، مثل التباعد الجغرافي الهائل بين سلفين مفترضين) و"أثر درج الملف" (أي تجاهل مئات المحاولات الفاشلة وإظهار القلة التي تبدو أنها تدعم فرضيتهم). العيب الثاني أن التشابه لا يعني السلف المشترك وسَيَرِد في الفصل الخامس تفسير مفصل عن ذلك وأخيرًا مغالطة هو قبله فهو سبب له: فلا يعني أن الأحفورة الأقدم سلف للأحفورة الأحدث، لمجرد وجودها قبلها.

الفصل الرابع : الانتواع

يتناول المؤلف في هذا الفصل الانتواع، ويشير إلى اختلاف العلماء في تعريف النوع ولجوء التطوريين إلى تعريف ضيق رغم مساوئه – ما يدعى بالمفهوم البيولوجي للنوع – سعيًا لدعم نظريتهم. ثم يستعرض المؤلف هذا التعريف وما يرافقه من مصطلحات كالانعزال الجغرافي وتأثير المؤسس والانجراف الجيني وتأثير عنق الزجاجة، مؤكدّا على أن ذلك كله لا يقدم تفسيرًا مقنعًا للانتواع. ثم يتطرق المؤلف إلى حالات الانتواع المزعومة، فيفرق أولًا بين الانتواع الأولي والانتواع الثانوي. حيث ينحصر الأخير على النباتات المزهرة وينجم عن تعدد الصيغ الصبغية وينتج عادة من تهجين نوعين للحصول على نوع واحد، وهو خارج عن السياق الداروني. أما حالات الانتواع الأولي المزعومة، فيقول المؤلف أنها خمس ثم يفندها واحدةً تلو الأخرى، ويؤكد أنها ليست إلا تغايرات ضمن نفس النوع، معيدًا فكرة أن الانعزال التكاثري لا يعني انتواعًا، ضاربًا مثال التغايرات المختلفة من الكلاب التي لا يمكن أن تتزاوج رغم أنها تنتمي لنفس النوع. ثم يناقش المؤلف التجارب التطورية على ذباب الفاكهة والطفرات التي أدت إلى تغييرات في نماء ذباب الفاكهة، مؤكدًا أنه بمرور آلاف الأجيال لم تؤدي الطفرات إلا إلى الإعاقة أو الموت أو تغايرات بسيطة دون إنتاج أي أنواع جديدة حقيقية. أخيرًا يذكر المؤلف قصور كل هذه الآليات المقترحة في تفسير ظهور معلومات جديدة. بل على العكس لا تؤدي كل هذه الآليات إلا إلى فقدان معلومات وصفات جينية (مثل تأثير عنق الزجاجة)، وبالتالي فإن التصميم الذكي هو التفسير الأفضل لظاهرة الانتواع، لأن المصدر الوحيد للمعلومات هو الذكاء.

الفصل الخامس : التصنيف والتفسير

تمثل ملامح التشابه بين الكائنات الحية أساس علم التصنيف، والذي يهدف لتجميع الكائنات الحية وفق تشابهاتها والتفريق بينها وفق اختلافاتها، كما يمتد لتفسير التصانيف وشرحها. تقع معظم الملامح المشتركة لدى الكائنات الحية في تراتبية دقيقة ضمن مجموعات مما يوحي بأنّها تغيّرت عشوائيًا أو تجمّعت مما جعل تصنيفها مهمة صعبة. يعود التشابه بين الكائنات الحية لدى علماء الداروينية إلى قرابتها، أي انحدارها من أسلاف مشتركة تحمل نفس الهيكل العام. لا يمكن إثبات صلة القرابة بين أحافير الكائنات القديمة ولذلك يعتمد علماء الأحافير على التشابهات لبناء فرضيّاتهم حول العلاقات التطوّرية. وفقًا لنظرية داروين كلما زادت التشابهات زاد احتمال القرابة التطوّرية. لكنّ إدراك هذه التشابهات مهمة صعبة وبالتالي القرار في تصنيف الكائنات. يمثل تصنيف الذئب التازماني المنقرض حديثًا والذئب الأمريكي الشمالي مثالًا على ذلك، فكلاهما متماثلان تمامًا بالشكل البالغ، إلا أنّهما يختلفان جذريًّا في التطوّر الجنيني. يصنّف الذئب التازماني مع الكنغر ضمن الجرابيّات بينما يصنّف الذئب الأمريكي الشمالي مع الكلاب. يفسّر علماء الداروينية تطوّر هذين النمطين من الذئاب إلى هذا الشكل الذئبي المتطابق بظاهرة تسمّى التطوّر المتقارب. فالبيئة وجّهت تطوّر الذئب الأمريكي الشمالي ليصبح قريبًا من الذئب التازماني في استراليا واستمرّ التقارب حتى نتج ذئبان متطابقان. لكن يوجد مشكلتان في هذا الاستدلال: 1) لا دليل على تماثل المتطلّبات البيئية عبر التاريخ التطوّري للذئبين، 2) لا يمكن افتراض أنّ المتطلّبات البيئة المتشابهة تدفع لتطوير سمة مشتركة، فضلًا على مجموعة كاملة مشتركة من السمات تصل لحد التطابق الكلي تقريبًا. تصل هذه المصادفة لعدد كبير من الكائنات الجرابية الأخرى في أستراليا المماثلة لكائنات مشيمية مثل القط والسنجاب والخنزير الأرضي وآكل النمل والخلد والفأر. فالتطوّر التقاربي لم يحدث فقط في كائنين حيّين فقط بل تحت صف الجرابيّات بأكمله قد تطوّر بصورة منفصلة عن تحت صف المشيميّات في قارّتين. يحتاج التطوّر المتقارب لكومة من الصدف العشوائية المتتالية لينفي التصميم أو الهدف الغائي ولا يصدّق هذا إلا الساذج.

التشابه الوظيفي والتشابه البنيوي

السمات المتشابهة في الكائنات على نوعين: تشابه وظيفي analogy مثل جناح الطير وجناح الحشرة حيث كلاهما يستعملان لوظيفة الطيران رغم الاختلاف الجوهري في التركيب، وتشابه بنيوي homology مثل جناح الخفاش وزعنفة الدلفين حيث كلاهما لديهما نموذج العظام ذاته مع اختلاف الوظيفة. اعتبر عالم التشريح البريطاني ريتشارد أوين Richard Owen التشابه الوظيفي دلالة على التكيّف على ظروف الخارجية بينما التشابه البنيوي يعدّ مؤشّرًا على علاقة تصنيفية أعمق بين الكائنات. المثال التقليدي الشهير على التشابه البنيوي هو الأطراف الأمامية للفقاريات حيث يتشابه نظام العظام فيها مع اختلاف الوظيفة، وكذلك تشابه حرارة الدم وإنتاج الحليب يوجّه نحو تصنيف هذه الكائنات تحت اسم الثديّات رغم الاختلافات الخارجية. عرّف أوين وعلماء آخرون ما قبل الداروينية السمات المتشابهة homologous المشتقة من نمط مشترك بالنمط البدائي archetype، وهو يعدّ فكرة مثالية نظرية مترسخة في بنية الطبيعة أو نموذج علمي تجريبي للكائن الحي. اعتبر داروين الكائنات الحية ذات السمات المتشابهة منحدرة من سلف مشترك بينما اعتقد أوين أنّ الكائنات الحية المتشابهة بنيويًا قد بنيت وفق خطة موحّدة. يقدّم التشابه البنيوي دليلًا على السلف التطوّري بالنسبة لداروين، فتشابه عظام اليد البشرية وعظام القدم الأمامية لدى الكلب مثلًا (على الرغم من الاختلاف الوظيفي الكبير بينهما) يدلّ على سلف مشترك يملك هذا الترتيب المحدد للعظام. تفترض الداروينية أنّ التطوّر يعدّل الأجزاء البنيوية الموجودة لتلائم وظائفًا جديدة، وبذلك تتطوّر عظام زعانف السمك إلى عظام يد بشرية وإلى عظام قوائم كلب أمامية. تغيب الأسلاف المشتركة المطلوبة لإثبات النظرية عن السجل الأحفوري، ويخلق هذا فجوة كبيرة بين المجموعات الرئيسية للكائنات الحية. لذلك اعتمد علماء الداروينية على التشابهات البنيوية لإثبات العلاقات التطوّرية، إلا أنّ عليهم أيضًا تفسير التشابهات الوظيفية التي لم تعد متشابهة بنيويًا، وجاء التفسير معتمدًا على التطوّر المتقارب. قد يكون التفريق بين التشابه البنيوي والتشابه الوظيفي صعبًا، فمثلًا صنّف لينيوس الحيتان كأسماك وفاته أنّ الشكل الشبيه بالسمك لدى الحيتان ناجم عن الاشتراك بالوظيفة، وهذا الخلط متكرّر كثيرًا في دراسة التصنيف.

الباندا المحيّرة

يعدّ كلا نوعي الباندا العملاقة والباندا الصغيرة الحمراء محلّ خلاف بين علماء التصنيف، فلا يعرف هل تصنّفان ضمن الدببة أم الراكون. أخيرًا طرح Dwight Davis رئيس قسم تشريح الفقاريات في متحف التاريخ الطبيعي بشيكاغو فكرة تقول أنّ الباندا العملاقة تنتمي للدببة بينما الباندا الصغيرة تنتمي لحيوان الراكون، وأثبتت الدراسات الكيميائية الحيوية ذلك الاستنتاج. الغريب في ذلك الأمر أنّ اعتبار الباندا الصغيرة راكونًا يجعلها الراكون الوحيد خارج موطنه المعروف (الأمريكيّتان) وقد فاجأ وجودها في الصين علماء الأحياء. إنّ عيش الباندا العملاقة والباندا الصغيرة في منطقة جغرافية وتماثل الصفات المادية والسلوكية مثل شكل الأنف والفك والأسنان دفع علماء الأحياء سابقًا لتصنيفهما معًا إما ضمن الدببة أو الراكونات. إلى جانب ذلك يتشابه نوعي الباندا هذان في المعدة والقناة الهضمية والكبد ويختلفان عن بقية الدببة. رغم اعتقاد علماء الداروينية أنّ تشابه النظام الغذائي المعتمد على الخيزران دفع لهذا التشابه في الجهاز الهضمي، لكنّ الباندا العملاقة أقرب للباندا الصغيرة منها إلى بقية الدببة في عدد الصبغيّات. وجه التشابه الآخر هو امتلاكهما لإبهامًا (إبهام الباندا) جزئيًا هو عبارة عن تضخّم في العظم السمسماني الكعبري radial seasamoid في الرسغ، والذي يمنح كلا نوعي الباندا قدرة بارعة في التعامل مع الخيزران الذي يمثّل نظامها الغذائي. التشابه السلوكي هو نقطة تشابه أخرى حيث ليس لدى نوعي الباندا هذين فترة سبات مثل بقية الدببة. اعتبر علماء الأحياء تلك التشابهات دليلًا على تشابه بنيوي homologous بين نوعي الباندا وفسّروا ذلك بأنّه انحدار عن سلف مشترك، لكن مع التوجّه الحالي بين العلماء لتصنيف نوعي الباندا ضمن عائلتين مختلفتين، واعتبار تلك التشابهات ناتجة عن الاشتراك في الوظيفة وعن التطوّر المتقارب، يعني هذا أنّ جميع تلك الصفات قد تطوّرت بصورة مستقلة من العدم. يطرح هذا المثال وأمثلة كثيرة من الطبيعة سؤالًا حول إمكانية اعتماد الصفات المتشابهة دليلًا على العلاقة التطوّرية.

إعادة تعريف التشابه البنيوي (التناظر Homology)

تطرح الداروينية فكرة الانحدار من سلف مشترك مع تعديل كأفضل تفسير للتشابهات البنيوية، لكن لا يمكن تفسير بعض البنى المتشابهة بالسلف المشترك وذلك واضح في مثال الثديات الجرابية والمشيمية، وأيضًا في إبهام الباندا، وكذلك عين الأخطبوط مشابهة لعين الإنسان، وقد عزيت تلك التشابهات للتطوّر المتقارب. أعيد تعريف التناظر homology ليصبح التشابه بسبب السلف المشترك، لكنّ هذا التعريف يؤدّي لدائرة مفرغة واستدلال دائري على شكل: يثبت السلف المشترك التناظر، ويثبت التناظر السلف المشترك.

علم تطوّر السلالات الجزيئي Molecular Phylogeny

تاريخ التطوّر السلالي هو التاريخ التطوّري المفترض لمجموعة من الكائنات الحية، وقد كان معتمدًا على السمات التشريحية والفيزيولوجية كبنية العظام وحرارة الدم، إلا أنّه أصبح حديثًا معتمدًا على مقارنة البروتينات والـDNA. يعتمد على تشابه تسلسلات الـDNA والبروتينات لتحديد قرابة الكائنات الحية من بعضها، ويعمل عدد الاختلافات في تلك الجزيئات كساعة جزيئية لعدد السنين التي مضت منذ أن كانت تلك الجزيئات متطابقة (أي في السلف المشترك). تعدّ بيانات تسلسلات الـDNA المرمّزة لـrRNA مهمة في علم التطوّر السلالي الجزيئي، وقد استخدمت لإثبات أنّ الانفجار الكامبري لم يحدث على فترة زمنية قصيرة كما يبدو في السجل الأحفوري الكامبري، لكن فشلت تلك التحليلات الجزيئية، بل اكتشف أنّ الفقّاريات هي أقرب للديدان المدوّرة منها إلى الحشرات وفق دراسات الـrRNA بعكس ما كان معروفًا، ولكن عند استخدام مورّثات أخرى في بناء الشجرة السلالات التطوّرية ظهرت نتائج معاكسة. العلاقات التطوّرية السلالية مسألة معقدة وتختلف نتائجها مع اختلاف التقنيات والمورّثات المستخدمة. نتيجة لهذا فإنّ الطرائق الجزيئية فشلت في تحديد السلف المشترك لجميع الكائنات الحية. من المستحيل وضع شجرة صحيحة للحياة كلّها وفق الشكل الذي طرحه داروين، وقد اقترح herve Philippe وPatrick Forterre بدلًا عنه شكلًا شبكيًا، وطرحا كذلك فكرة جديدة لجذر جديد للشجرة الحياة تقول أنّ الحياة بدأت بخلايا ذات نواة ثمّ نشأ عنها خلايا أبسط منزوعة النواة، وهذا متفق مع السيناريو الدارويني للانتقال من التعقيد إلى البساطة عبر الانتخاب الطبيعي. لكنّ مسألة أصل الحياة بقي قضيّة غير محسومة.

الأعضاء الأثرية: الدليل الأفضل على التطوّر

البنيةُ الأثريةُ في الكائن الحي هي البنية التي كانت تؤدي وظيفةً في الماضي ولكنَّها لا تفعل ذلك اليوم. بقيت هذه الأعضاء نتيجة لعملية العطالة التوالدية generative inertia. يعني هذا أنّ البنية لا تزال متوارثة لأنّه من الأسهل الاحتفاظ بها بدلًا من التخلي عنها، والانتخاب الطبيعي يحتفظ بها لأنّها ليست ضارة أو نافعة. لا تزال هذه المسألة محل خلاف، فكثير من الأعضاء الأثرية المفترضة اكتشف لها وظائف هامة، ومثال على ذلك عظم العصعص والزائدة الدودية. لكن هنالك أعضاء عديمة الوظيفة حقًا مثل عيون بعض أنواع السمندل والسمك التي تقطن في البيئات المظلمة حيث تحمل نتوءات مكان وجود العيون لكنّها عديمة الوظيفة تمامًا. تتفق الأعضاء الأثرية تمامًأ مع فكرة التصميم الذكي لأنّها كانت مصمّمة فعلًا ولكن فقدت وظيفتها بحوادث أو لعدم الاستعمال. لكنّ البنى الأثرية لا تقدّم سوى دليلًا محدودًا على التطوّر، فهي تثبت خسارة الوظيفة ولكن ليس اكتسابها، أي لا تقدّم دليلًا على زيادة التعقيد. مثال آخر جزيئي على فقد الوظيفة هو الاصطناع الحيوي للفيتامين C (حمض الأسكوربيك)، حيث أنّ معظم الثديّات قادرة على تصنيع هذا الفيتامين عدا عن الإنسان وخنزير غينيا بسبب وجود الإنزيم المسؤول عن اصطناع هذا الفيتامين ولكن بصورة طافرة. تدعى المورّثة التي لا تؤدّي لاصطناع بروتين وظيفي بالمورّثة الكاذبة pseudogene، ويعتبرها علماء الأحياء التطوّرية بقايا أثرية وأنّها دليل معارض للتصميم الذكي ومؤيّد للسلف المشترك. واستشهد العلماء أيضًا بأنّ الرئيسيّات غير البشر مثل الشمبانزي تحمل عيبًا في نفس المورّثة ولكن ليس مطابقًا، وهو دليل على انحدار الإنسان وبقية الرئيسيّات من سلف مشترك. يجدر ذكر أنّ عيب المورثة في خنزير غينيا مطابق للعيب في المورثة البشرية لكنّ خنزير غينيا بعيد تصنيفيًا عن الرئيسيّات، وقد عزيت الطفرة في هذه المورثة لمنطقة شديدة التطفر hot spot لدى البشر وخنزير غينيا، وبالتالي تشابه الطفرة بين البشر وبقية الرئيسّات ليس دليلًا على انحدارهما من سلف مشترك، أي أنّ حجة الأخطاء المشتركة ليست كافية لإثبات التطوّر. تطرح كذلك مسألة تطابق المورثات المرمّزة لبروتينات متشابهة في كائنات مختلفة، ويحتج بها على أنّها دليل على التطوّر ونفي للتصميم. الحقيقة عكس ذلك فتطابق المورثات يعكس اقتصادية التصميم فلا معنى من وضع مورثة جديدة في كلّ كائن حي للحصول على بروتينات متشابهة.

نظرية التلخيص (الاستعادة) Recapitulation

اعتقد داروين أنّ الاشتراك في البنى الجنينية بين الأنواع المتباعدة يعني انحدارها من سلف مشترك، وتظهر التشابهات في المراحل الجنينية شكل السلف المشترك بين الكائنات. اعتمد داروين على دراسات غيره من علماء الأجنة مثل إرنست هيكل Ernst Haeckel الذي ابتكر مصطلح تنشؤ الفرد ontogeny لوصف النمو الجنيني للفرد ومصطلح التطوّر السلالي phylogeny ليصف التاريخ التطوّري للأنواع. اعتقد هيكل أنّ الكائنات تستعيد (تلخص) تاريخها التطوّري من خلال عبورها بالأشكال البالغة لأسلافها أثناء النمو. تتطور سمات جديدة لدى الكائن في آخر مرحلة النمو الجنيني بعملية سماها ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould (الإضافة النهائية)، أي تظهر صفات الأسلاف المتطوّرة بالترتيب من الأقدم إلى الأحدث، وقد سمّى هيكل هذه العملية بقانون النشوء الحيوي Biogenetic Law. اقتنع داروين بروسمات هيكل لأجنة الفقاريات واعتبرها دليلًا داعمًا لنظريّته وذلك لأنّها تتشابه حتى درجة التطابق مع شكل جنين الإنسان، ولكن أصبح معروفًا أنّ هيكل قد زوّر رسوماته، بل هي لا تمثل حتى المراحل المبكرة من نشوء الفقاريات، وبذلك يكون الدليل الأقوى بنظر داروين معتمدًا على التحريف العلمي.

التصميم المشترك أم السلف المشترك أم كلاهما

من الممكن تفسير التشابهات الحيوية بالتصميم المشترك أو السلف المشترك. يمكن تشبيه مبدأ التصميم الذكي بمصنوعات الإنسان، فنجد أنّ الأدوات والآلات جميعها تصنّع وفق خطة أساسية ويضاف إليها التعديلات ولا تبنى من العدم. تعرض نظرية السلف المشترك والتطوّر شرحًا للسمات المشتركة، ولكن يجب الأخذ بالاعتبار التشابهات المتعدّدة المختلطة (مثال الجرابيّات)، فوفقًا لنظرية التطوّر تعتبر الذئاب والقطط والسناجب وخنازير الأرض وآكلات النمل والخلدان والفئران قد تطوّرت مرّتين مرّة لتصبح من الجرابيّات ومرة أخرى لتصبح من الثديّات وذلك بحدثين مستقلّين تمامًا. من الصعب تصديق أنّ عملية عشوائية عمياء غير موجّهة هي مسؤولة عن إنتاج سمات مشتركة عدة مرات لدى كائنات متباعدة جدًا.

الفصل السادس: الآلات الجزيئية

يشير مصطلح الآلات الجزيئية لتجمّعات البروتينات الكبيرة التي تقوم بمهام الخلية، وسمّيت بالآلات لأنّها تتألف من أجزاء متحرّكة متناسقة تشبه إلى حدّ كبير الآلات التي يصنّعها البشر، وتتميّز بأداء وظائف عالية التخصص، وعديد من أجزاء تلك الآلات يمكن استخدامها في آلات جزيئية أخرى مع تعديل بسيط على الأقل مثل قطع الغيار في الآلات الصناعية، وأخيرًا تستهل الآلات الجزيئية طاقة لأداء مهامها.

فكرة مايكل بيهي الخطيرة

فنّد مايكل بيهي Michael Behe في كتابه (صندوق داروين الأسود) أخطاء الداروينية الحديثة في تفسيرها لأصل التعقيد الجزيئي داخل الخلية، واعتمد بيهي على فكرة التعقيد غير القابل للاختزال لإثبات حجة التصميم. النظام غير القابل للاختزال هو معقد يتألف من أجزاء مترابطة تعمل بتناسق لأداء مهمة محدّدة، ولا يمكن إلغاء أيّ جزيء من النظام دون هدم الوظيفة الأساسية للنظام.

سياط البكتيريا

يزخر علم الأحياء بالآلات البروتينية المعقدة تعقيدًا غير قابل للاختزال، ومنها الأهداب البكتيرية وشلال التخثر الدموي والسياط الجرثومية. تعدّ السياط من أعقد الآلات الحيوية ووصفت بأكثر الآلات كفاءة في العالم. السوط محرك دوّارٌ يعمل بالحمض مربوط بذيل سوطي تؤدي حركته الدورانية إلى دفع الجرثوم في بيئته المائية، يعمل ذيل السوط كالمروحة، ويمكنه تغيير اتجاهه كلّ ربع دورة. المهمة الرئيسية للسوط هي دفع الجرثوم في البيئة المائية، والمطلب الأساسي للسوط الفعّال يؤدي مهمّته هي الذيل السوطي ثنائي الاتجاه والمتحرّك بسرعة هائلة (أكثر من 10000 دورة في الدقيقة وقد تصل إلى 100000)، وأيّ حركة أبطأ من ذلك ستمنع الجرثوم من التغلّب على الحركة البراونية للماء. تتطلب آلية السياط تنسيقًا معقدًا بين 30 بروتينًا يساعد في تجميعها 20 بروتينًا آخر وخسارة أحد البروتينات السابقة يؤدي لتدمير وظيفة السوط. تبعًا للفكرة الداروينية تطوّر السوط الجرثومي بآليات الانتخاب الطبيعي من جرثوم عديم السياط ولا يملك حتّى المورثات التي ترمّز لبروتينات السوط وبما فيها المورّثات المماثلة لبروتينات السوط. يجب على الآليات الداروينية أن تنتج المورّثات الصحيحة التي ترمّز لبروتينات السوط وتجمّعها معًا في مكان واحد بالزمن والترتيب الصحيح، وكلّ هذا عليه أن يحدث عشوائيًا وهذا ما ينافيه العقل.

التطوّر المتشارك والانتقاء المتشارك

بمحاولة لتفسير التعقيد غير القابل للاختزال يذكر أتباع الداروينية الحديثة أنّ أجزاءً من أنظمة أخرى قد انفصلت واختارت الانضمام للنظام الجديد بطريقة تدعى الخليط المرقّع، وهذا ممكن نظريًا للأنظمة البسيطة مثل الحجر الذي كان يستخدم لتثقيل الأوراق ثم استخدم لسند الباب، بينما الأنظمة عالية التعقيد مثل السوط البكتيري فتحتاج لأن تجلب قطعًا بروتينية كثيرة تترك وظيفتها الأساسية وتتجمّع معًا بتناغم دقيق للغاية لتكوّن نظامًا غير قابل للاختزال. هذا تفكير ساذج يفرض أنّ عددًا كبيرًا من الصدف العشوائية حدثًت معًا بخطوة واحدة كبيرة. افترض أيضًا حدوث انتقاء متدرّج ومتزايد، حيث يقوم الانتخاب الطبيعي بانتقاء البروتينات الموجودة وتجميعها في بنية جديدة بصورة تدريجية بحيث تكون الإضافات غير أساسية في البداية ولكن مع تعديل الأجزاء الأساسية تصبح تلك الإضافات جزءًا أساسيًا كذلك وبذلك يصبح النظام معقدًا غير قابل للاختزال. بتحليل ذلك الافتراض نجد أنّه ينافي فكرة التعقيد غير القابل للاختزال، فالبنية الأساسية التي تتطور تدريجيًا بإضافة الأجزاء بالتأكيد لا تؤدّي الوظيفة النهائية الخاصة بالنظام المعقد غير القابل للاختزال وإلا لما سمّي بذلك الاسم. يحتاج إثبات هذا الافتراض لإعادة بناء مفصلة لنظام قابل للاختبار وليس مجرّد وصف افتراضي بأحرف A يعطي B وهكذا. وجد العلماء نظامًا قريب الصلة بالسوط الجرثومي هو نظام الإفراز من النمط الثالث Type Three Secretion System (TTSS) الموجود في اليرسينية الطاعونية Yersinia Pestis، ويتألف من عشرة بروتينات تقريبًا مشابهة لبروتينات السوط الجرثومي، وافترض أنّها تمثل سلف تطوّري محتمل للسوط الجرثومي. يعدّ هذا دليلًا ضعيفًا وذلك على افتراض أنّ TTSS يعدّ نظامًا فرعيًا من السوط الجرثومي ولكن هذا لا يثبت أنّه تطوّر منه، فمن الممكن استعمل أجزاء النظام بمفردها لأداء وظائف أخرى، وذلك كمن يستعمل محرّك الدراجة النارية كمدفئة ثم يقول أنّ الدراجة النارية تطوّرت من ذلك المحرّك. يستخدم نظام TTSS في حقن السم في الكائنات متعدّدة الخلايا والتالي ظهر افتراض يقول أنّ ذلك النظام ظهر بعد نشوء الحياة متعدّدة الخلايا، بينما السوط الجرثومي يفترض أنّه موجود منذ ظهور البكتيريا وحيدة الخلية، وبالتالي قد يكون نظام TTSS تطوّر من السوط الجرثومي أي بعكس الافتراض السابق، ومع ذلك فهذا لا يفسّر التطوّر فهو انتقال من التعقيد إلى البساطة أي عكس الافتراض الدارويني.

الفصل السابع: علامات الذكاء

عندما يعمل فاعل ذكي عملًا ما فإنّه يترك خلفه آثارًا تدلّ بوضوح على ذكائه، وتعرف هذه الآثار بالتعقيد المحدّد، ويعتبر مثل بصمة الاصبع أو التوقيع الذي يؤكّد الهوية الذكية. يشترك ليكون الشيء ذا تعقيد محدّد أن يكون معقدًا لا يمكن إنتاجه بالصدفة بسهولة ويكون محدّدًا أي يظهر نمطًا محدّدًا مستقلًا، ولا يكفي التعقيد وحده أو التحديد وحده لوجود عنصر الذكاء، فمثلًا وجود حروف مصطفة بصورة عشوائية يعدّ عملية معقدة ولكنّها ليست محدّدة، والحصول على كلمة متكرّرة يعدّ عملية محدّدة ولكنّها ليست معقدة، وفي كلا الحالتين لا وجود للذكاء، بينما عند الحصول على نصّ كامل ذو معنى يقتضي هذا وجود فاعل ذكي. تعتمد كثير من العلوم على فكرة التعقيد المحدّد كدلالة على الذكاء وخصوصًا في الطب الشرعي وعلم الشيفرات وتوليد الأرقام العشوائية وعلم الآثار والبحث عن الذكاء خارج الأرض. يضمّ مصطلح التعقيد المحدّد ثلاثة عناصر رئيسية: 1) العنصر الاحتمالي، و2) العنصر الوصفي و3) المقياس الاحتمالي. التعقيد المحدّد يدلّ على اللا احتمالي، فالعلاقة بين التعقيد المحدّد والاحتمالية عكسية، مثل القفل المؤلّف من عدّة أرقام يجب اختيار توليفة محدّدة منها بالترتيب، فكلّما زاد تعقيد القفل قلّ احتمال فتحه بالصدفة العشوائية. ثانيًا التعقيد الوصفي كنموذج، في التجارب الاحتمالية كلّما كان وصف نموذج التجربة قصيرًا أمكن تحديد نموذج لها مثلًا (10 صور للأعلى) في تجربة رمي قطعة نقدية. ثالثًا ليكون الشيء ذو تعقيد محدّد يجب أن يكون التعقيد الوصفي فيه ضعيفًا والتعقيد الاحتمالي كبيرًا، والدمج بينهما يجعل حدوث الشيء بالصدفة صعبًا جدًا بل ناتج عن فعل ذكي.

صعود جبل الاحتمال البعيد بواسطة التصميم؟

يعتمد دوكنز في دفاعه عن نظرية التطوّر على أنّ احتمال تشكّل الأنظمة محدّدة التعقيد ليس ضئيلًا، حيث يقارن التعقيد الأحيائي بصعود الجبل، ويقول أنّ صعود الجبل بخطوة واحدة مستحيل ولكنّه ممكن إن كان على خطوات صغيرة ومتدرّجة، ولكنّ هذا الجبل الأحيائي شديد الانحدار وصعوده بخطوات صغيرة مستحيل عمليًا لوجود فجوات كبيرة بين المخلوقات الأحيائية.

القردة التي تكتب رواية شكسبير على الآلة الكاتبة

يطرح مؤيّدو التطوّر فكرة الزمن الطويل لجعل الاحتمال الضئيل جدًا ممكنًا ومعقولًا، والزمن وحده قادر على فعل المعجزات. لكنّ كونًا عمره بلايين السنين ونصف قطره بلايين السنين الضوئية يكفي لحدوث شيء صغير الأهمية فقط بطريق الصدفة. طرح الرياضي الفرنسي إيميل بوريل مثالًا يقول أنّ مليون قردًا يطبعون عشر ساعات يوميًا على آلة كاتبة يكون احتمال كتابتهم لكتب مكتبات العالم أمرًا بالغ الضآلة. لكن لنجعل الأمر أسهل، كم قردًا نحتاج ليطبعو العبارة "نكون أو لا نكون، ذاك هو السؤال" بطريق الصدفة فقط؟ إن افترضنا وجود مليون قرد يطبعون على مليون آلة كاتبة عشوائيًا وبمعدل مليون ضغطة مفتاح في الثانية ولمدة مليون سنة، لن تسمح هذه الفرصة سوى بكتابة سطرين من رواية هاملت.

العقبات التي يجب على التطوّر اجتيازها

التوفر availability: هل الأجزاء التي سيتطوّر منها النظام الكيميائي الحيوي المعقد غير القابل للاختزال موجودة أصلًا؟ التزامن Synchronization: هل توجد هذه الأجزاء معًا في الوقت المناسب؟ التوضّع Localization: هل تستطيع الأجزاء أن تنفصل عن الأنظمة السابقة وتشترك في بناء النظام الجديد؟ التفاعلات المتصالبة المتداخلة Interfering Cross-Reactions: كيف يمكن استبعاد الأجزاء غير المطلوبة والتي ستخرب العمل في بناء النظام؟ توافق الأجزاء Interface Compatibility: هل تتوافق سطوح الأجزاء مع بعضها لتكوّن نظامًا فعّالاً؟ ترتيب التجميع Order of Assembly: مع تحقيق كلّ الشروط السابقة، هل ستتجمع الأجزاء بالترتيب الصحيح؟ التهايؤ Configuration: هل ستتجمع الأجزاء بالطريقة الصحيحة فراغيًا؟

متراجحة الإنشاء

لكلّ واحدة من هذه العقبات احتمالية مرافقة، وكلّ واحدة منها مشروطة بالتي تسبقها، واحتمالية ظهور النظام المعقد غير القابل للاختزال بطرق داروينية (احتمالية النشوء) تساوي أو أصغر من حاصل ضرب جميع الاحتماليات (تدعى الجملة متراجحة الإنشاء). إنّ إثبات صغر إحدى احتماليات العقبات يعني مباشرة صغر احتمالية النشوء، وبالتالي هو نظام معقد ومحدّد، ونستنتج أنّه علامة تجريبية موثوقة للتصميم وعندها يكون نظامًا مصمّمًا. يدلّ هذا على أنّ متراجحة الإنشاء مقياس اختباري لنظرية التصميم الذكي، فمثلًا يمكن تحليل درجة التوافق بين أجزاء الأنظمة الكيميائية الحيوية، يمكن خلطها ومحاولة إعادة تجميعها، فإن كانت تتحمل عملية الخلط والتشويش فهي مرشحة للخضوع للتطور الدارويني، وإن كانت حساسة لعملية الخلط فلن يكون التطور الدارويني قادرًا على التأثير فيها. إنّ تحديد قيمة الاحتمالات السابقة مهمة صعبة جدًا بالنسبة للنظم الحيوية عالية التعقيد، ومن هنا يأتي علماء التطوّر ويختبئوا وراء هذه المهمة الصعبة ويطلبوا من النظريات البديلة أن تقوم بمهمة إتيان الدليل على بطلان التطوّر. من الأمثلة على البنى المعقدة العين والتي نجدها بأقصى درجات البساطة مؤلفة من بقعة حساسة للضوء وتتدرّج بالتعقيد حتى عيون الفقاريات. لا يكفي أن ترسم أسهمًا من الأبسط إلى الأعقد لتثبت أنّها تطوّرت من بعضها، بل يجب شرح التغيّر الحاصل في المورّثات والنمو الجنيني والتوصيل العصبي. يمكن لنا دراسة بنى معقدة أبسط من ذلك مثلًا بدراسة تطوّر خلية واحدة من خلايا العين أو حتّى البنى الكيميائية الحيوية داخلها، مثلًا بدراسة تطوّر السوط الجرثومي علينا دراسة تطوّر كلّ بروتين مكوّن له، ولا يكفي دراسة احتمال تطوّر تسلسل الأحماض الأمينية في البروتين للحصول على بروتين آخر بل يجب تحديد تباعد البروتين ذي الوظيفة الأولى عن البروتين ذي الوظيفة الجديدة، ويجب الأخذ بالاعتبار أنّه أثناء تطوّر تسلسل البروتين يجب أن يحافظ على بنيته الوظيفية وإلا فالانتخاب الطبيعي سيقصيه. تعتمد وظيفة البروتين على بنيته الرابعية (الشكل الفراغي) وبالتالي هنالك مجال كافي لإحداث التغييرات في البنية الأولية (تسلسل الحموض الأمينية) والثانوية (الروابط داخل جزيئية)، وقد ثبت أنّ بعض البروتينات الصغيرة تستطيع تطوير وظائف جديدة باستبدالات حموض أمينية قليلة، ولكن هذا صعب جدًا بالنسبة للبروتينات الضخمة التي يجب أن تنطوي بمراحل متناسقة ومتتابعة والحديث عن احتمالات تطوّرها تدريجيًا بعيد المنال.

التنوّعات والانتخاب لا يعملان كفريق متناغم

هنالك دليل على عدم إمكانية تطوّر البروتينات الكبيرة، حيث أثبت بحث عالم الأحياء الجزيئية دوغلاس أكس أنّ ميدانًا بروتينيًا مؤلفًا من 150 حمضًا أمينيًا تقريبًا في الأنزيم TEM-1 ß-lactamase غير قابل للتطوّر بالعمليات الداروينية، وقد اختار دوغلاس هذا البروتين بدقة لأنّه يحمي الجرثوم من تأثير عائلة البنسيلينات كصادات حيوية وهو يوفر آلية انتخابية للتنوّعات الجرثومية. طبّق دوغلاس أكس الحوسبة التطوّرية evolutionary computing في بحثه من أجل نمذجة العمليات الداروينية حاسوبيًا على هذا البروتين. استخدم أكس الانتخاب الطبيعي للقيام بمهمة تطوّر ذلك الميدان البروتيني إلى آخر جديد له تطوّي ثابت. كانت النتيجة أنّ 1 من كلّ 10^64 تسلسل جديد كان ميدانًا وظيفيًا، وهذا رقم بالغ الضآلة بلغة الاحتمالات. لكنّ الانتخاب يعمل على الوظيفة النهائية للبروتين الناتج، وبما أنّ الوظيفة لم تتغيّر فلن يقوم الانتخاب الطبيعي على حفظه، وبالتالي التنوّع والانتخاب لا يتفقان في العمل. يقع عبء إيجاد الدليل على نفي فكرة التصميم في البروتين على علماء الداروينية، ولا يكفي التخمين بأنّنا نهمل إحدى قدرات التطوّر فهو احتجاج بالجهل.

الفصل الثامن: ما الذي يحتاج إلى شرح؟

تعدّ محاولات العلماء لإعادة تعريف معضلة أصل الحياة مجرّد محاولة للهروب من المعضلة الحقيقية. لحلّ المعضلة يجب أن يشرح أصل الخلايا كما وجدت على الأرض بكامل تعقيدها. يلجأ باحثو البيولوجيا التطوّرية لمبدأ فرّق تسد وذلك بتقسيم النظم المعقدة لأجزاء ومحاولة شرح تطوّرها، ولكنّ هذا الأسلوب باء بالفشل، حتىّ الخلايا بدائية النوى هي بحدّ ذاتها فائقة التعقيد، وتنفّذ الخلايا بنوعيها حقيقية النوى وبدائية النوى كلّ الوظائف الحيوية الأساسية المرتبطة بالحياة، كمثال الشيفرة الجينية واصطناع البروتينات. تحتاج الخلية بدائية النوى لمئات المورثات للتعامل مع هذه المهمة الرئيسية، لذا حتّى إن افترضنا تطوّر الخلايا حقيقية النوى من بدائية النوى، يبقى أصل الخلايا بدائية النوى بحاجة لشرح موسّع، وليس لدينا أيّ دليل على أشكال حياة سابقة لها. تتمحور معضلة أصل الحياة حول آلية اصطناع البروتين في الخلية. لا يملك تسلسل الـDNA أيّ وظيفة حيوية ما لم يترجم إلى بروتين، وهذه العملية بحدّ ذاتها تحتاج لاجتماع حوالي 50 مكوّن لإتمامها، وتلك المكوّنات مرمّزة بالأصل في تسلسل الـDNA، وبالتالي ندخل في حلقة مفرغة عند وضع أيّ نموذج أو نظرية حول تكوّن الشيفرة الجينية.

فرضية أوبارين

افترض البيوكيميائي الروسي Alexander Oparin أنّ الخلايا الحية الأولى نشأت بالتدريج من مواد غير حية، وذلك بأنّ المركبات الكيميائية البسيطة يمكنها الارتباط ببعضها معطية بنى أعقد مثل الأحماض الأمينية، وبدورها ترتبط معًا معطية البروتينات، ثم تتراكم معطية البنى الحية. سمحت الظروف الجوية على الأرض البدائية باعتقاد أوبارين للمركبات الكربونية بأن تتحوّل إلى مركبات أكثر تعقيدًا. كذلك طرح البيوكيميائي الإنكليزي J. B. S. Haldane نفس الفكرة وقال أنّ الأشعة فوق البنفسجية حوّلت الغازات البسيطة الموجودة في الغلاف الجوي البدائي إلى مركبات عضوية محوّلة المحيطات البدائية إلى حساء ساخن ممدد (الحساء ما قبل الحيوي)، وخرجت الجزيئات الشبيهة بالفيروسات منه والتي تطوّرت بالنهائية إلى خلايا. تدعى نظرية أوبارين وهالدين بنظرية التطور الكيميائي أو ما قبل الحيوي، وليست الصدفة وحدها مسؤولة عن توجيه التفاعلات الكيميائية، بل هنالك أيضًا ميل داخلي في المادة نحو التنظيم الذاتي وفقًا لادعاء الفرضية.

ترتكز نظرية أوبارين على مجموعة من الفرضيات:
  1. الغلاف الجوي المختزل، خالي من الأوكسجين الذي يؤكسد ويدمّر المركبات العشوية،
  2. الحفظ، حفظت المركبات العضوية من الآثار المدمّرة للطاقة المسؤولة عن تكوينها،
  3. التكثف، تراكمت بتركيزات عالية مما سمح بارتباطها معًا معطية مركبات معقدة،
  4. التوجّه الموحّد، تتحد الأحماض الأمينية اليسرى فقط معطية بروتينات الحياة، وتتفاعل السكاكر اليمنى فقط مع بعضها معطية عديدات السكاريد والنكليوتيدات،
  5. الظهور المتزامن للجزيئات البيولوجية المعتمدة على بعضها البعض (الـDNA والبروتينات)،
  6. التكامل الوظيفي،
  7. البناء الضوئي، تطوّرت عملية البناء الضوئي تدريجيًا داخل المقوصرات. اعتمدت فرضية أوبارين على مبدأ فرّق تسد بتقسيم معضلة نشوء الحياة إلى مراحل قابلة للاختبار عوضًا من الافتراض بأنّ الحياة نشأت فجأة.

تجربة ميلر – أوري Miller-Urey

قام الباحثان Stanley Miller وHarold Urey بإجراء تجربة محاكاة لتكوّن المركبات العضوية من الغلاف الجوي البدائي المفترض، وذلك بغلي الماء ضمن جو مشبع من بخار الماء، وسحب الأكسجين بالكامل وأضيف غازي الهيدروجين والميثان، كما سلّط تيار كهربائي على المزيج الغازي بجهد عالي 50000 فولط. نتج عن التجربة عدد من المركبات العضوية الأساسية في الحياة مثل بعض الحموض الأمينية وكذلك اليوريا وحمض النمل وحمض الخل وحمض اللبن. قادت تلك التجربة وتجارب محاكاة أخرى لضجة في الوسط العلمي، وساد الاعتقاد بصحة المرحلة الأولى من فرضية أوبارين، ولكن عند الانتقال للمرحلة التالية بمحاولة اصطناع المركبات المعقدة لأصل الحياة مثل البروتينات والـDNA فقد باءت جميع المحاولات بالفشل إلى اليوم. افترضت تجارب المحاكاة أيضًا عدم وجود الأكسجين الحر في الغلاف الجوّي البدائي لأنّه يحطّم المركبات العضوية فور تشكّلها، ولكن تشير الأدلة العلمية لوجوده في العصور القديمة كما أنّ الأكسجين ضروري لتكوّن غاز الأوزون الذي يحمي الكائنات الحية من أثر الأشعة فوق البنفسجية القاتلة. المشكلة الأخرى في تلك التجارب هي عدم صحة افتراض وجود الهيدروجين في الغلاف الجوي البدائي، حيث تشير أدلة علماء الجيوكيمياء أنّ الغلاف الجوي قد تكوّن من مقذوفات البراكين والتي تحوي نسبة ضئيلة من الهيدروجين الذي سيتبدّد في الفضاء لانخفاض كثافته. مسألة حفظ المركبات العضوية في الحساء البدائي لا تزال غير مثبتة، فالطاقة التي يفترض أنّها تدفع لتكوين المركبات العضوية ستكون السبب في تخربها الفوري أيضًا. عند تكوّن الأحماض الأمينية في فرضية أوبارين لن تتفاعل انتقائيًا مع بعضها بل ستتفاعل مع جميع المركبات العضوية الأخرى مما يمنع تكوين المركبات المعقدة مثل البروتينات، وقد افترض أوبارين مبدأ التكثف وذلك أنّ الحموض الأمينية عليها أن تتكثف وتتركز بطريقة ما قبل أن تتفاعل انتقائيًا مع بعضها، ولكن لا دليل علمي على ذلك. تتواجد الحموض الأمينية في البروتينات بصورتها التخايلية chirality اليسرى، وذلك بعكس الحموض الأمينية الناتجة مخبريًا الموجودة بمزيج راسيمي 50% من الشكل الأيمن و50% من الشكل الأيسر. كذلك السكاكر الحيوية توجد فقط بالشكل الأيمن عوضًا عن مزيج راسيمي. يعتمد تكوين البوليميرات الحيوية (البروتينات والـDNA) على شرطين: ربط الوحدات البنائية ببعضها بشكل جيّد، ويكون ترتيب الوحدات البنائية ذو أهمية وظيفية. أولًا يمكن للحموض الأمينية والنكليوتيدات أن ترتبط وفق أشكال مختلفة ولكنّ شكلًا محدّدًا هو الذي يستخدم لبناء الحياة وهو الشكل الخطّي الناتج عن الرابطة الببتيدية في البروتينات مثلًا وبعدها يجب أن تترتّب بالصورة الصحيحة لتعطي مركبًا وظيفيًا. أيضًا ترتبط النكليوتيدات مع بعضها برابط محدّد (3 – 5) لكي تدعم الحياة. يتطلب تكوين البروتينات مجموعة متكاملة من الإنزيمات تصل حتى 60 إنزيمًا والتي توجد معًا بنفس اللحظة وضمن نفس المكان، على البيئة الخلوية بكاملها أن تساعد في تنظيم هذه العملية، وبالتالي عدم صحة افتراض أوبارين بالتطوّر التدريجي للجزيئات البيولوجية الكبيرة. لا يوجد دليل علمي حتى الآن لآلية تطوّر عملية البناء الضوئي عالية التعقيد، وبالتالي عدم صحة افتراض أوبارين بتطوير الخلايا البدائية لعملية التركيب الضوئي بوسائل مادية.

عالم أشباه البروتينات

قام Sidney Fox باصطناع جسيمات شبيهة بالبروتين أطلق عليها اسم proteinoids وذلك بتسخين الحموض الأمينية ضمن جو مشبع من النتروجين مما أدى لارتباطها معًا بصورة متشعبة، وعند إذابتها في الماء كوّنت بنية كروية يقارب حجمها حجم الخلية، والمثير للاهتمام أنّها حفّزت بعض التفاعلات الكيميائية، مما دعا فوكس لافتراض أنّ أشباه البروتينات تمثل الأنزيمات الأولية على الأرض البدائية. يفترض فوكس أيضًأ أنّ هذه الكريات يمكنها أن تطوّر خصائص مشابهة للحياة وبالتالي تكوين الخلية الحية الأولى. وقع فوكس في خطأ جسيم في أن استخدم الحموض الأمينية اليسرى فقط المسؤولة عن تكوين البروتينات، وثانيًا السيناريو الخاص بتكوين أشباه البروتينات من البراكين ثم تبريدها سريعًا بالأمطار مشكوك فيه، وغالبًا ستتفكك وتتحطم بحرارة البراكين فور تكوينها، وثالثًا لا تمتلك أشباه البروتينات غشاء خلويًا بعكس الخلايا الحية، وأخيرًا تفتقر أشباه البروتينات للترتيب الدقيق للجزيئات الحيوية والمشاهد حتى في أبسط الخلايا الحية.

عالم الـRNA

برز الـRNA كمركب محتمل لنشوء الحياة عوضًا عن الـDNA والبروتينات، حيث عرف للـRNA قدرة على التصرف كإنزيم وكذلك القدرة على تصنيع نفسه مع غياب البروتينات، وقد عرف الـRNA ذو القدرة الإنزيمية بالأنزيمات الريبوزية ribozyme. لا يوجد دليل على كيفية تصنيع الـRNA أولًا دون الخلايا الحية التي تصنّعه، كما لا يمكن تصوّر كيف بإمكانه أن يتجمّع بالصورة الدقيقة وحتى أن يتطوّر إلى بنى الحياة المعقدة الأخرى.

الفصل التاسع: خاتمة

يصوّر منتقدو التصميم الذكي أيّ محاولة لإيجاد بديل عن نظرية التطوّر بأنّها بدافع ديني معارض للعلم ورافض للحقائق والعقلانية، ويعرض الفلم (يرث الريح Inherit the Wind) هذه الصورة النمطية بكلّ وضوح. عرض الفلم قصة جون سكوبس الذي كان يدرّس نظرية التطوّر في إحدى المدارس الحكومية بولاية تينيسي الأمريكية، وتعرّض بسبب ذلك للمحاكمة إذ كان تدريس هذه النظرية محظورًا في جميع المدارس الحكومية. لكن صوّر الفلم سكوبس بأنّه مطارد ومهدد بالسجن ولكنّ الواقع لم يكن بذلك الخطورة.

محاكمة سكوبس الحقيقية

لم يكن المدّعي العام في قضية سكوبس ويليام برايان رجعيًا ولا متشدّدًا كما صوّره الفلم، بل رفض الداروينية لأنّه يرى أنّ الدليل فيها غير مقنع. بينما كان المحامي دارو في القضية شهيرًا في البلاد بتطوير المذهب اللاأدري، وله مناقشات عامة ضدّ الأديان على أساس التطوّر. دافع دارو في قضية سابقة عن طالبين قاما بارتكاب جريمة قتل، واعترف المذنبان بأنّهما كانا يسعيان نحو ارتكاب الجريبة الكاملة، وقد احتجّ دارو بأنّ فعلهما كان نتيجة لعمليات تطوّر الإنسان البشري وأنّهما لا يستحقان عقوبة الإعدام. لم يكن التطوّر ولا أدلّته موضع نقاش في المحاكمة بل قدّمت إفادات 7 علماء بأنّ التطّور حقيقة. كان الجانب الأبرز في المحاكمة هو استجواب المحامي دارو لبرايان حول الإنجيل، ولكن تجنّب دارو استجواب برايان له حول التطوّر بتحويل مجرى المحاكمة بطلبه جعل موكّله مذنبًا. كان فعل دارو مخططًا له بأن يلقي الضوء على انتقاد الإنجيل ثم يتهرّب من الإجابة عن استجواب التطوّر، ولنظرية التطوّر تاريخ طويل في التهرّب من الدراسة النقدية.

أهمية إبقاء العلم أمينًا

يقول بروفيسور القانون آلان ديرشويتز في جامعة هارفارد أنّ دعاة التطوّر يستغلون التطوّر للدعاية لبرامج مثل تعقيد الأشخاص الدونيين والفاشلين في التكيّف، وبرامج حظر الهجرة للأشخاص من أصل عرضي أدنى، والقوانين ضدّ السود. بالتأكيد يعارض المجتمع العلمي اليوم فكرة العنصرية على أساس بيولوجي، ولكنّ بعض علماء الداروينية البارزين مثل Daniel Dennett يثقون بفكرة ثقافة النخبة، ويرون أنّ من يعارض الداروينية هو أدنى ثقافيًا ويجب عزله عن الباقين. إن كان لتاريخ العلم إشارة تذكر، إن كل نظرية علمية فيها عيوب وستهجر في النهاية أمام نظرية أفضل وأكثر دقة؛ فلمَ علينا الاعتقاد أن نظرية التطور استثناء من ذلك؟ إن ثقة العالم بالنظرية ليست ضمانة على أنها حقيقة.

مصادر